حقيقة الرأي العام في مصر
حقيقة الرأي العام في مصر
العدد 8 السنة الأولى بتاريخ 14 ديسمبر 1889 م الموافق 21 ربيع ثاني سنة 1307 هـ
الرأي المعتبر عند العقلاء صدق الحكم بالنتائج لأسبابها سواء كان صحيحاً فى الحقيقة وموافقاً للواقع في نفس الأمر أم لا وليس بواجب أن يكون صحيحاً دائماً وإلا لما اعتبرنا رأيين في أمر ما ولما التفتنا إلى مناقشة قط في حقيقة واحدة بين فريقين لان الحق لا يتجزأ بل يكفي في الخلاف وجود الارتباط بين النتائج ومقدماتها في الظاهر ولهذا قال السياسيون والحكماء والفلاسفة يجب احترام الأفكار حتى تتجلى الحقيقة
واعتبار الرأي العام في البلاد التي تقدمت في الحضارة وغلبت فيها المعارف وانتشرت فيها الفنون والصنائع مبني على هذه القاعدة وإلا لما قامت للأحزاب المتحزبة قائمة ولما وجد لكل فريق أنصار
وبإجماع الآراء أن بين بلاد الشرق والغرب تفاوتاً في المدنية ونسبة في التقدم والارتقاء هي التباين بلا ارتياب وما ادعى إلى الآن الشرقيين أنفسهم بمعاداة الغربيين ……. العلوم والصنائع والفنون بجميع فروعها وبالطبع كان الرأي العام في تلك البلاد المتمدنة والممالك المرتقية غيره في بلاد تعترف بأنها لم تنل الحظ وان كانت ساعية للحصول عليه فالادعاء بأن الرأي العام في الشرق له حكمة في الغرب خطأ بين ودعوي ظاهرة البطلان
ومصر من بلاد الشرق التي لا ترى أنها وصلت الدرجة الكافية للمطالبة باعتبار الرأي العام أسوة البلاد الأوروبية وان كان لها رأي عام ايضاً وهو إحساس الأمة بالحاجات والمطالب إجمالاً ففي يوم كان الظلم ضارباً اطنابه فيها لو سألت أي فرد من هيئتها العمومية إلا النزر القليل عن حالته وهل هو سعيد أو شقي لأجاب بأنه شقي مظلوم ممتهن ضائع الاحترام ولكن لو سأله بم ظلمت وكيف امتهنت وضيعت لقال انظر لحالي وحال عيالي وما أنا عليه ولو سألته ماذا سلب منك من الحقوق لقال منهوب مسلوب بدون ان يستطيع الزيادة على ذلك وكذلك لو سألته اليوم والعدالة قد مدت باطها ورفعت أعلامها والفلاح قدرت حقوقه وواجباته بيد هذه الحكومة البارة لقال حالتي أحسن مما مضى بدون أن يعرف السبب أو يشرح كيف ذلك وان كانت الأفراد التي يمكنها أن تجيل الفكر وتنظر إلى الأسباب وتشرح الحقيقة شرحاً كافياً وتعلم ما هي الحقوق والواجبات التي لهم وعليهم اليوم أكثر منها قبل .
اما الغربيون فلو سألت أي فرد منهم الآن عن حقوقه التي يطالب بها وواجباته المطلوبة منه لين مفرداتا قبل الاجمال ووضح حقيقتها بلا إبهام إلا القليل منهم الذين لا يزيدون عدداً عن نسبة المتعلمين لدينا فالأكثرية لديهم لأولئك الذين ارتقوا وتربوا والأكثرية عندنا الذين لم ينتقلوا من حالتهم الأولى هذه حقيقة لا يمترى فيها اثنان ولا ينكرها إلا من حاول نطاح السماك بقرنيه
والسبب في هذا التبيان انتشار العلوم والمعارف في تلك الأرجاء وانقباضها وانحصارها بين أفراد قليلين في بلادنا وما نالته مصر من الالتفات والعناية والنشأة في العلوم والمعارف منذ سطعت أنوار التوفيق وان كان يبشرها بحسن المستقبل ويطمعها في التقدم ومباراة الأمم المتمدنة مع ما أوجده عامل العدالة وإقامة قسطاس الاحكام بين أهليها من حسن الأثر لا ينهض كافلاً لتحقق الرأي العام الذي يحتاج إلى مقدمة أزمنة طويلة تعمل بقوة في إبرازه إلى الوجود
فعلى ما تقدم يظهر للقراء أن الرأي العام قسمان احدهما رأي يقوم بحجة ظاهرة…. مما يغلب عددهم في الأمة وهذا هو المتحقق في البلاد الأوروبية المتمدنة كفرنسا وانجلترا وألمانيا وما أشبهها وثانيهما رأي عام بمعنى إحساس طبيعي مبهم الصورة يظهر بالأثر وشهادة الحال من الأكثرين عدداً وهو الموجود في البلاد الشرقية ومن جملتها مصر وهذا لا ينافي أن في بعض أفراد الغربيين رأياً عاماً بالمعنى الأخير ولكن لا ينبغي التهويل عليه لوجوده بالمعنى الأول عند الأفراد القليلين عدداً في البلاد الشرقية ومنها مصر لكن لا يطلق عليه رأي عام لأكثرية الفريق المقابل له وان كان يعول عليه بعض التعويل
اذاً فالرأي العام في مصر موجود و ما كان كذلك فلا ينبغي أن يسند إليه إلا ما يلائم حاله والحكومة المصرية في جميع قوانينها قد راعت هذا الحكم فلم تبخس بحق المصريين ولم تحبس أفكار أفرادهم عن البحث في مطالب الأمة وقوانينها ولوائحها وراعت ذلك في أكثر منشوراتها مع الاعتدال فلم تخولهم منه ما منحه الرأي العام في انجلترا وفرنسا مثلاً ولو خولتهم هذا الحق لكانت بمنزلة من ساوى بين الشاب الناشئ في مدرسة الاختبار والتمرين وبين شيخ التجارب وأستاذ الحكمة وهو من المحاباة بمكان عظيم
وترى أن البعض من الناس إذا ذكروا خطبة جدال في نادي من أندية السياسة في الأمم الغربية أو رأى حزب في مجلس امة أو ووزارة أو إبداء اعتراض على الحكومة من جريدة تزاحم تلك الحكومة في الأعمال وتعترضها في المشروعات , يسارعون فيقولون انظر كيف يفعل الرأي العام أمام الحكومات الأجنبية وكيف يقبض الحزب الفلاني على عصا التغلب في الخلف , والذي جرى في البرلمان الانجليزي مثلاُ وهذا الرأي العام في بلادنا يطالب بكذا وكذا أنهم مسئولون أمام الذمة عما يلقون من هذه الأضاليل فإن الصالح الذي تسعى إليه الجرائد في كل أمة هو المنفعة المحضة لا الإيهام محشو بدسائس الفتن والفساد فليحذر القراء أن تغرهم تلك التلبيسات بدعوة الخدمة الوطنية وقد علموا أنهم لكاذبون في النسبة والانتماء