إذا ابتعد الشيء عن مصدره ظهر فى غير مظهره

جريدة الآداب مصر – العدد 17 يوم الخميس 4 رمضان 1305 الموافق 27 مايو سنة 1887م السنة الأولي – ص 17-18.

عناية بك وشفقه عليك أيها الباحث(1) ضربت لك هذا المثل ويحسن بي أن أشرح لك معناه من عالمك الذى أنت فيه، هذا الهواء الذى بينك وبين المرئيات هو وإن كان مادة الظهور فى علام الشهادة وبغيره لا تري شيئا لكنه جار على نواميس الظواهر فى التلبيس فيريك الشمس طالعة قبل أن تطلع ويريكها موجودة بعد أن غربت ومرة حمراء وأخري صفراء وتارة بيضاء، وصغيرة وكبيرة وذلك لانكسار الضوء عنه وهكذا كل مادة من هذا العالم جعلتها وصلة بينك وبين شئ فلو وضعت عصاك إلى نصفها فى الماء ونظرت إليها لخيل لك أنها مكسورة من النقطة التى عند سطح الماء ومن هنا تعلم أن الألفاظ إنما هى وصلة بينك وبين المعاني وهى من هذا العالم فلابد وأن تلبس عليك الحقيقة وتظهرها لك فى مظهر غير مظهرها فتدبر.

 ربما استحمل الدواء داء إذا عرض للهواء أو أخذ على غير الخواء نصيحة لك وخوفا عليك أيها الباحث ضربت لك هذا المثل ومن حقوقك على أن أبين لك تمثاله من عالم الظواهر، كما أن هذا الهواء ألبس على الباصر حقيقة المرئيات فقد ينقلها من حالة نافعة إلى حالة مضرة.

 هذا شراب يودور الحديد الذى شهدت له الأطباء بأنه أعظم دواء للأنيميا وفقر الدم والأوسكور بوط بعد أن كان نافعا صار ضار ومثل ذلك بعض العقاقير التى من شأنها أن تستعمل على الخواء إذا استعملها أحد على الامتلاء أفسدت معدته وربما قتلته إن لم يقذفها ومن هنا تعلم أن وضع الدواء فى الهواء ما هو إلا كوضع السر فى جو الإذاعة وشراب الدواء على الامتلاء ما هو إلا كسماع الحقيقة بأذن ممتلئة مجازا فاحرص تولي الله هداك أن تذيع ما ألقيه عليك للذين يحرفون الكلم عن مواضعه فيلبسون الحقيقة غير ثوبها ويظهرونها فى مظهر الضلالة، ويتصرفون فيها بما لا يسوغ وادع أحب وصغ أقل.

 فلا تسع الأزمان علمي بأمرها ولا تسحن الأيام تكتب ما أملي تسألني عن أشد معترض فى سبيل السير من عالم الظواهر إلى عالم الظهور ولعمر الحق إنه لسؤال يشف عن طوية تريد أن تطوي بيداء هذه الزخارف وتشق عباب هذه البحار المظلمة التى اضطربت فيها أمواج الأهواء فأزبدت على رءوس الذين اختطفتهم لجتها حيال الغياهب فاستر سلوا مع تيارها الذى سيسلمهم إلى ضحضاح

الجحيم عند الطاقة التى تدك من هولها جبال العزيمة وهناك الشقاء الذى يجدونه من منكر ضيعهم وتكبر أنفسهم التى انسلخت عنهم فى أشنع جال، يقمعانهم بمقار مع السخط وناهيك بسعر الأسف، وحيث قد سددتك العناية لأن تبحث فى هذا المبحث فعناية بك ساحلل لك اخلاطة وأبين اختلاط وأظهره فى ثوبي مجاز وحقيقة من الظواهر التى طبعتها فى قلوبنا طوابع العادة حينما تركنا التبصر.

 إننا نحب أن نعيش لنأكل فنتج عن ذلك الشره وبتفاعلها حصل الحرص ولو تبصرنا لوجدنا الحقيقة ( أننا نأكل لنعيش) ومنها ( تحب أن تلبس لتتجمل) فنتج عن ذلك ( العجب) وبتفاعلها حصلت ( الخيلاء).

والتبصر نجد الحقيقة أننا نلبس لنستر العورة، ومنها نحب أن نواقع لنلتذ فنتج عن ذلك الإقبال على تقوية الحيوانية، وبتفاعلها استولي سلطان ( الشهوة)، والحقيقة أننا نلتذ ليبقي النوع، ومنها نحب أن نقتتي لنسور فنتج ( الحسد) وعندها ( نتجت) الغيرة، والحقيقة أننا نقتتي لنكتفي هم ألمؤنه فإذا تدبرت هذه الظواهر الحقائق تبين لك أن بينها تناقضا حقيقيا فمقتضي أن نأكل لنعيش أننا نكتفي بالقدر الذى يلزم لقيام البدن فقط وهو الاقتصاد، وذلك مناف للحرص والشره الذين هما نتيجة أن نعيش لنأكل.

 وهكذا ولو تأملت بعين الحكمة لرأيت الطبيعة تسوقنا إلى ما تريد بسوط مؤلم ولكننا نسترسل غير واقفين على الحد الأوسط مسرعين مع العادة إلى سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء (1) وما هو إلا ظلام أوجه عدم التبصر فى بحر لجي ماؤه الحيرة يغشاه موج من الفتن، من فوقه موج من الأهواء، من فوقه سحاب يجب عن ملاحظة الحقيقة فمتي وقع الإنسان فى هذه اللجة، كان أعظم ما نع له من التخلص من سلسلة العادة التى تقلدها فى عنقه وما حلقتها إلا نتائج الظواهر.

 ومن هنا يظهر لك قول بعض أولي الحقيقة ( خضت بحرا وقفت الأنبياء بساحلة) (2) فإن هذا البحر لا يسقط فيه إلا أسير العادة

 

  • يقصد بالباحث هنا الشيخ على يوسف الذى طلب من السيد احمد ماضي أبى العزائم ( الطائف الجوي) النصح والإرشاد ليخفف عنه الآم الحياة اليومية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى