توحيد السلطة

العدد 18 يوم الأربعاء الموافق 3 جمادي الأولى 1307 هـ الموافق 25 ديسمبر 1889 م

ميز الله الإنسان عن باقي الحيوانات بأمور كثيرة أجلها حرية الفكر , فليس في استطاعة أي قوة أن تحجر على الإنسان أن يفتكر في أي شيء مهما عظمت تلك القوى وهذه الحرية هي التي تجعل الإنسان مستقلاً وهو أجل حق طبيعي منحته الحكمة الإلهية لأفراد هذا النوع لما يترتب عليه من حرية التصرف بحق في جميع الأعمال , غير أن هذه المنحة الطبيعية التي قلنا عنها انه ليس في استطاعته أي قوة أن تتسلط عليها يمكن أن تجري عليها الأحكام بالواسطة بمعنى أن تلك القوة الخارجية تحجر الإنسان من أن يبدي إرادته وفكره أو أن يتصرف في الأمور بمقتضاها بحجة أنها منحرفة أو خارجة عن حدوده وواجباته وبمثل هذه الحجة كانت غلبة القوى على الضعيف وتقييد حركاته والوقوف أمامه بالحجر والضغط عليه بل بها وحدها وجد الاسترقاق في العالم وكان الإنسان بين قوى يستخلص حق الحرية لنفسه وضعيف يحجر عليه ويضرب على يديه في الأعمال بل يسير بإرادة غيره عبداً ذليلاً منقاداً لأوامر ذلك القوى مملوكاً له يبيعه ويشتريه بثمن بخس كالدواب وبانتزاع هذا الحق منه كانت وظيفة الفكر لا غية لا تعمل لعدم وجود ما تعمل فيه أو لعدم فائدة عملها

وهذا هو سبب التفاوت بين أفراد البشر بمساعدة عوامل طبيعية أخري , وكما يوجد ذلك بين الأفراد يوجد بين الأمم فأمة قوية تستخلص لنفسها حق حرية الإرادة والعمل بها وأمة استضعفتها تلك فضربت على أيديها ومنعتها حرية التصرف طبق إرادتها فكانا بمنزلة ذينك الفردين في الحكم واحدة متصرفة والأخرى مقبوضة الأعضاء باطلة الحركة ومن هذا ايضاً وجد التفاوت بين الأمم ارتفاعاً وانحطاطاً , هذا هو حكم تلك الاعصر الماضية التي جنت على الإنسان وجعلت لبعض أفراده امتيازاً وهو اكبر جريمة جنتها الأيام السالفة ظلماً وعدواناً

اما هذا العصر الحاضر عصر العدالة والحرية المطلقة فقد أتى بحسنة تمحو تلك الجرائم إلا وهي التبري من حكم الاعصر السالفة بالامتياز بين بعض الأفراد والبعض الأخر وقام أهله ينادون بتعميم المساواة بين أفراد النوع البشري لا فرق بين فرد وآخر وأمة وأخرى فترى زعماؤه يضربون أكباد الإبل في البراري ويزجون السفن البخارية في البحار وبأيديهم راية المساواة يدعون العالم للاستظلال بها والتفيىء لها فضعف ذلك الحق إلا دعائي وهو الامتياز حتى بين الأبيض والأسود والأحمر والأسمر وأقيم الحق الطبيعي وهو المساواة والدول العظيمة الشامخة المجد القوية البطش تمدهم بأيدي المساعدة تعميماً لهذا المبدأ الشريف ( مبدأ المساواة والحرية وأوجبت على نفسها في قوانين محترمة إغاثة المستغيث وإجابة دعوة الداعي وشكوى المشتكي من جريمة الامتياز ومن المساواة  ولكن من تأكل يجد اسم هذه الدعوة اكبر من مسماها إذا لا تخلو من مراعاة بعض غايات ذاتية ومصالح شخصية لا تخرج عن كونها من باب الامتياز غير ان هذه الدول ربما كان لها وجه إذا ادعت أن كثيراُ من الأمم المتبربرة والشعوب المتوحشة لم يتأمل إلى تخويله المساواة الحقة والحرية المطلقة وهي قضية جديرة بالتسليم بالنظر إلى الشعوب الكائنة في جنوب إفريقيا مثلاً وربما أنها عند ما تنتظم وتؤيد فيها العدالة وتستقيم فيها الأحكام وتنتشر فيها المعارف والعلوم وتنشأ فيها المحاكم وتوجد بها القوانين العادلة وتسير بكل ذلك سيراً معتدلاً تبادر الى منحها هذا الحق وتهو بينها وبينهم كلمة ( الامتياز ) لكن اذا رجعنا بالنظر الى حالة الشرق الان مع الغرب والتفتنا إلى ممالك الدولة العلية بالخصوص ونظرنا اللا البلاد المصرية بنظر مستقل بينها تجد انها اصبحت اهلاً لان تمنح كل حق طبيعي لها وليس هذا القول جزافاً بل بشهادة رجال السياسة في اوروبا واعتراف الدول الغربية بذلك اذ كلهم يعلم ان مصر اصبحت ذوات قوانين بعدالتها كل مشرع سياسي واداري وفي ايدي رجال يقدرون الاعمال حتى قدرها وفي قبضة امير ليس بأقل محبة للعدل والانصاف من ذوي الامر والشأن في تلك الدول غير انا نجد كلمة ( امتياز ) لم تزل مسطرة فوق بعض الاعلام ومشوهاً به جبينها وعنوانها مع انها لم تكن أسوة ممالك دولتنا العلية فقد منحها السلطان المعظم الملك العادل امير المؤمنين وخليفة رب العالمين حقوقاً محترمة ومنبرها بصفات مخصوصة عن باقي تلك الممالك لاعتبارها في نفس الامر عظيمة قادرة بولاة امورها ان تنصف من نفسها في الواجبات وآدائها وبمساعدة عوامل اخرى قضت بتخصيصها في التعهدات بأحكام مستقلة فهو حفظ الله جلالته منحها هذا الحق لتحظو بنفسها الى درجات التقدم وتصعد اللا مراقي الفلاح وسارت على ذلك حتى حققت تلك الامنية واطمأنت قلوب الدول الاجنبية على مستقبلها بل هي ايضاً ساعدتها على هذا التقدم توصلاً اللا سعادتها فلم تقف امامها حاجزاً حصيناً عن خطوات السبق التي احرزتها الآن

ونحن نعلم ان تلك الدول لم تساعدها على هذا التقدم الا لتصل الى الدرجة التي يجب عندها ان تمنح جميع حقوقها الطبيعة او ان تنادي هي بالحصول عليها , وقد اعترفت الدول جميعاً ان مصر اصبحت اسوة الممالك الاوروبية في الاحكام وادارة الاعمال فليست تخاف الان من هدر حقوق افرادها المقيمين بها لخروجها عن دائرة التوحش والاستبداد بهمة حكومتها الحاضرة كما اعترفت ذاتها بذلك فبقاء كلمة الامتياز الان بين المقيمين فيها رجوع الى الحالة الاولى بالضرورة وبقاء للحكم مع زوال سببه

وقد قدمنا ان اول حق طبيعي يجب ان يمنحه الانسان منى تأمل هو استقلال فكره بحياة الاستقلال العملي فيه وتحويله اياه وكذلك الامة لا تعد في مصاف الامم الا اذا قويت فيها ارادة الرأي العام الذي هو بمنزلة فكر الانسان وحرية ضميره ولا تتحقق ارادة هذا الراي العام الا اذا تصرفت بمقتضاه في جميع اعمالها لان الوظيفة على راي الطبيعيين تقوم العضو , وهذا الراي العام لا يوجد بدون حرية التصرف فكان وجود الامتياز بين افراد المصريين هو بمنزلة ذلك الحجر الذي تبرات منه الانسانية والعدالة ونادت به الدول الاوروبية اذاً فبقاء الامتياز للاجانب في مصر حرمان لها من اكبر الحقوق الطبيعية وتناقض بين اقوال الامم المتمدنة وبين اعمالها , فإن انكرت علينا هذا الحكم فلتقم البرهان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى