مكانة الشيخ احمد ماضي ابو العزايم فى الصحافة

تتكشف المواهب الإلهية والمهارات الفردية عند الإنسان إذا وجدت مناخاً صالحاً يساعد على ظهورها وتربة خصبة تقود عروقها وتغذي أوارقها بالإضافة إلى بيئة حسنة تنشر أريجها وتزيد من تأثيرها على مر الأيام والسنين وقد اجتمعت كل هذه العناصر عندما استوي عود الشيخ احمد ماضي وبلغ سن الرشد حيث كان المناخ الثقافي الذى يعيشه مزدحماً بأبرز الكتاب والأدباء وأهل الحكمة من صفة المجتمع المصري فى ذلك الوقت.

فكان على باشا مبارك والشيخ على يوسف وسعد زغلول والشيخ محمد عبده والإمام محمد ماضي ابو العزائم صفوته من الأصدقاء وأقرب الناس إلى قلبه وأحب الرفقاء على فؤاده.

وساعدت صحبته الطبية بالشيخ على يوسف وعلى باشا مبارك من قربه برجال الفكر والسياسة والاتصال بالصحف والمجلات المصرية والعربية وعندما وجد الشيخ احمد ماضي نفسه قريبا من المناخ الذى يدفعه إلى الإدلاء برأيه والإفصاح عن موقفه تجاه القضايا الوطنية والدينية والسياسية، لم يتردد فى حل مشكلات أبناء مجتمعه، ولم يضمن بعلمه الغزير وثقافته الموسوعية على قضايا أمته العربية والإسلامية وكانت البداية فى صورة خطابات عميقة الفكر وجزلة اللفظ أرسلها سراً إلي صديقة العزيز الشيخ على يوسف رئيس تحرير جريدة الآداب المصرية فى ذلك الوقت.

إلا أن إخلاصة لله فى عمله وصدقه مع ربه فيما كان يكتبه من نصائح غالية وقضايا جليلة تسهم فى حل مشكلات الأمة الإسلامية، كان من وراء الشيخ على يوسف على عدم نشرها أو كشفها للرأي العام (1).

إلا أن صديقة الشيخ على يوسف كشف السر وأذاع الخبر ونشر هذه الرسائل عندما وجدها ذات أسلوب إعلامي متقدم وفكر إنساني عميق وطرق مستحدثة فى حل القضايا التى تعاني منها أمتنا العربية والإسلامية وكذلك المشكلات التى تواجه الشعب المصري والحكومة المصرية فى ذلك الوقت.

ولما وجد الشيخ على يوسف نفسه أمام قلم يسبل ذهباً وعقلاً يمتلئ فكراً واعياً بمسائل الدين وقضايا السياسية وأسلوباً أفاداً يملك ناحية اللغة العربية وماهراً بأساليبها البلاغية ومحسناتها البديعية، لم يجد أبداً من الاحتفاظ بهذا القلم لجريدته اليومية ( المؤيد) التى كانت رائدة الصحف المصرية والعربية فى ذلك الوقت.

فعينة مدير التحرير لها وأسند إليه ماداته التحريرية لثقته فى مكانته الصحفية ومعرفته بقدراته العلمية والأدبية فى ترجمة الأخبار التى ترد من وكالات الأنباء الأجنبية مثل ” روتر”  و ” هافاس” (2).

 

  • انظر: جريدة الآداب المصرية – يوم الخميس 4 رمضان، سنة 1305هـ- الموافق 27مايو، سنة 1887م: العدد 17، ص 17-18.
  • انظرا : محمود احمد ماضي أبو العزائم: الإمام محمد ماضي أبو العزائم صفحات من حياته : 1/18.

بالإضافة إلى كتابة المقالات والرد على الخطابات التى تأتي على الجريدة بل كان الأمر فى كثير من الأوقات يصل إلى تحمل أعباء الجريدة بكل أبوابها وقضاياها الإخبارية ودورها السياسي والاجتماعي على الصعيدين الدولي والمحلي.

فكان الشيخ على يوسف يترك صديقه المخلص الشيخ احمد ماضي يقوم بإصدار الجريدة والقيام بأعبائها السياسية والعلمية والأدبية وكذلك الدينية والاجتماعية أثناء سفر خارج بلاد مصر(1).

ومن  غير الإنصاف أننا نجد كتاباً ومؤرخين لدور الصحافة المصرية والعربية يغفلون عن هذا الدور الكبير الذى قام به الشيخ احمد ماضي فى تطور الصحافة المصرية والعربية فى ذلك الوقت (2). وخاصة فى تأسيس جريدة المؤيد وإذا كانا إزاء بعض الآراء التى نحترمها والتى لا تري دورا للشيخ أحمد ماضي فى الصحافة المصرية وجريدة المؤيد، فإننا ايضا بصدد آراء أخري نجلها ونقدرها تري أنه شيخ الصحافة الإسلامية والعربية.

فيشير الأستاذ عبد المنعم شقرف إلى أن الشيخ أحمد ماضي كان له شأن عظيم تجلي فى فن الصحافة الإسلامية فى أعقاب القرن الماضي ما جعله يلقب على صفر سنة ( بالشيخ احمد ماضي)، وبشيخ الصحافة الإسلامية والعربية، ولكن قصر عمره ووفاته المبكرة جعلته يمر فى تاريخ أمته كغيث هطل ، عائدا إلى صفاء السماء واتساع الآفاق(3).

ويصف السيد محمود احمد ماضي ثقافته الشاملة ودوره البارز فى الصحافة الإسلامية والعربية، حيث يقول : وما شئت أن تراه طبيبا ًحذف الطب بعد أن درسه بنفسه إلا لقيته، وما شئت أن تراه كاتباً فى عصر ملك فيه ناحية القلم الغراب عن مصر قامت عبقريته وأبت عليه غيرته إلا أن ينبذ هؤلاء الأغراب ويضع أول لبنه فى بناء صاحبة الجلالة الصحافة العربية الإسلامية فى مصر فى مجلة الآداب أولا، وثانيا فى صحيفة المؤيد الذى اشترك معه فى استصدارها علماً من أعلام النهضة الحديثة فى مصر هو الشيخ على يوسف.

 

 

  • انظر: سليمان صالح: الشيخ على يوسف جريدة المؤيد- الهيئة المصرية العامة للكتاب – سلسلة تاريخ المصريين – رقم 37 عام 1990م، ج1 ص 23.
  • خصص الدكتور عبد اللطيف حمزة فصلا كاملا عن الشيخ على يوسف ودورة فى الصحافة المصرية ودورة فى جريدة المؤيد ولم يذكر للشيخ احمد ماضي سوي إسهاماته المادية فى تأسيسها واختلافة مع الشيخ على يوسف” انظر: د/ عبد اللطيف حمزة: أدب المقالة الصحفية فى مصر – دار الفكر العربي – القاهرة –طبعة أولي 1951م ، 40-41-42.
  • عبد النعم شقرف: الإمام محمد ماضي أبو العزائم، ص 17.

 

هذه الجريدة السيارة التى ظفرت منه بجهد جهيد وعمل شاق وفاعلية من مزيد من عصر تضافرت فيه عليه الأعداء من كل صوب، وهبت عليه فيه الأعصاير من كل ناحية، ثم صمد لهذه الأعصاير وتلك الحوادث مع إجلالفاً لجميع الآراء التى تؤكد دور الشيخ احمد ماضي فى الصحافة العربية والإسلامية إلا أننا نري أن بها شيئا من المبالغة والمغالاة.

ولكن يمكن القول بان الشيخ احمد ماضي من شيوخ الصحافة العربية والإسلامية لأنه تعلم اللغات الأوربية وترجم العديد من البرقيات التى ترد على جريدة المؤيد كما أنه كتب الكثير من المقالات الصحفية وصار رفيقا للمفكرين والسياسي البارزين واحتل منصب مدير تحرير ” المؤيد” (1) لمدة تزيد عن عامين بسبب مقالاته المؤثرة وأفكاره الفاعلة وأدواته الموفورة من خلال الكتابات التى شهدت بها جريدة الآداب وجريدة المؤيد.

ولم يكن الشيخ احمد ماضي صاحب أول لبنه فى بناء صاحبة الجلالة (2) ، ولكنه كان من الجيل الذى أقام صرح الصحافة المصرية والعربية والإسلامية ايضا فى القرن التاسع عشر الميلادي.

وقد شاركه فى بناء هذا الصرح العديد من الشخصيات التى شهد لها التاريخ وحفظتها الأجيال جيلا بعد جيل بدور بارز فى مجال الصحافة والإعلام ولعل من هؤلاء الرواد: السيد عبد الله النديم والسيد محمد رشيد رضا والشيخ على يوسف والشيخ محمد عبده والمويلجي والكواكبى وغيرهم وجملة القول أننا فى حاجة إلى حكم موضوعي على المكانة السامية التى شغلها الشيخ احمد ماضي فى الصحافة المصرية.

ولكن يتحقق لنا هذه الموضوعية فى الحكم على الدور الذى قام به هذا الشيخ الجليل ونتعرف على المكانة التى انتهي إليها لابد من التعرف على النقاط الآتية:

أولا: خصائص المقالة الصحفية عنده.

ثانيا: دور فى جريدة الآداب.

ثالثا: دور فى جريدة المؤيد.

وذلك حتى لا تقع فى البخس الذى وقع فيه الفريق الأول، ولا تسترسل فى الحكم كما استرسل الفريق الثاني.

 

 

 

  • انظر: عبد المنعم محمد شقرف: الإمام محمد ماضي أبو العزائم، ص26.
  • انظر: السيد محمود احمد ماضي أبو العزائم: الإمام محمد ماضي أبو العزائم، صفحات من حياته : 1/18/19.

أولا- خصائص المقالة الصحفية:

       يستطيع من يتابع ماكتبه الشيخ أحمد ماضي فى جريدة الآداب أو جريدة المؤيد أن يستخلص خصائص مقالاته الصحفية وسمات أسلوبه وفكره ولعل أهم ما يعلو هذا الأسلوب وذلك الفكر ما يأتي:

أ) الفكر الهادف والمعني العميق:

تتميز كتابات السيد احمد ماضي بالتركيز على الأفكار الهادفة التى تتناول جانبا مهما من جوانب الحياة أو قضية شائكة من قضايا المجتمع.

ثم يأخذ فى عرضها على القارئ بأسلوب أدبي أخذ معرباً من خلالها عن المعاني العميقة التى تحيط بهذه القضية والعلل غير المباشرة التى تضع أهل الحل والعقد على الطريق السديد الذى يؤدي إلي حل المشكلة أو الكشف عنها فإذا نظرنا على سبيل المثال على فهمه العميق لحب الذات وأثره على حياة الفرد والمجتمع، لعلمنا أبعاد هذا الفكر وتحققنا من نفاذ هذه البصيرة.

فحب ألذات عنده هو ” الواسطة لتنظيم القوي فى طريقة المنفعة وهو الباعث لها فكل قوة فى الإنسان والحيوان مطيعة لقاهريته، وكل الانفعالات النفسانية تحت سلطته، فلا يتحرك الإنسان حركة تسرية أو إرادية إلا وهو الباعث الذى سلط على الأعضاء التى هى آلات لها.

فالغضب الذى هو اندفاع الأرواح إلى خارج الجسم للانتقام بواسطة تشديد القوة الإرادية وانبعاثها بالرغم عنها لم ينشا إلا بعد أن يتوقد حب الذات فى موقدها وهو القلب فأنقاد إليه وبعث بالدم إلى جميع أنحاء الجسم بقوة شديدة.

إذا عهد ذلك علمت أن حب الذات هو القائد لجميع القوي التى يبعث بها مؤلفه فى طريق المنفعة وهو الحافظ لقانون التحسين العام، فلولاه لم تر شيئا حسناً قط، ولرأيت الإنسان الذى هو كما تراه فى أحسن تقويم على ما كان عليه من التوحش وفساد التركيب ولتعلم ايضا أنه مسئول على قوتين عظيمتين الأول: القوة النفسانية والثانية: القوة الشهوانية(1).

ويتبين من النص السابق أن الشيخ احمد ماضي لم ينظر إلى حب الذات كمرض قلبي لا يؤثر على حياة الفرد والجماعة، كما هو معلوم عند كثير من الناس ولكنه سدد سهام فكره ووجه ملكات ذهنه تجاه هذه المرض القلبي العضال ومن ثم استخرج لنا التشخيص الدقيق له ووضع أيدينا على مصادره الأولي اللتين تغذيانه وتزيد من تمكينه فى القلب وهما القوة النفسانية والقوة الشهوانية.

 

 

 

(1)    جريدة الآداب المصرية- يوم الخميس 18 رمضان، سنة 1304هـ- الموافق 9 يونية سنة 1887م، العدد 19 ص 36-37.

ونراه فى مكان آخر يكشف للقارئ أهمية العمل فى نهضة الأمة وتقدم الشعوب ويبين للحكومات دواعي كما لها ورفاهية شعوبها التى تنتج من وراء العمل والعمال. فيقول فى إحدى مقالاته بجريدة ” المؤيد” أ،ه ” ليس ثمن شئ أوجب لسعادة البلاد من عمال اتجهت حركات أفكارهم للقيام بواجبات وظائفهم وفق طبيعة النظام كما انه ليس شئ أخر على الحكومات من أن تبرز بأناس اخلصوا لهم، إن لم تجذبهم الغابات بسلاسلها فبإهمالهم يسجلون على الأمة الانحطاط وأول شرط فى كمال الحكومات. كون العمل ممن تبعثهم دواعي الطبيعة على السعي وراء خير البلاد(1).

وهكذا تلج أن الفكر الذى يعول عليه الشيخ احمد ماضي فى حل المشكلات ودراسة القضايا فكراً دفاءاً عميقا يتناول المشكلات والقضايا التى تشغل الرأي العام وتعوق مسيرة التنمية للتقدم. ولذا جاءت مقالاته العديدة على درجة من التميز فى الشكل والمضمون كما أنها أسهمت بدور مؤثر فى حركة الإصلاح الاقتصادي والسياسي وكذلك الاجتماعي التى نادت بها الحكومات فى ذلك الوقت، ونادي بها الكثير من الشخصيات الدينية والسياسية الفكرية مثل: السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وسعد زغلول وقاسم أمين ومن ثم يجب إن نضيف بجانب هؤلاء الشيخ احمد ماضي أبى العزائم.

 

ب) الاستعانة بالأسلوب القرآني والآيات القرآنية:

كان السيد احمد ماضي يستعين بكل وسيلة توضح فكرة وتقوي أسلوبه وتزيد من تأثيره على القارئ الذى يثق فى كل ما يكتبه هذا الشيخ ويعد القرآن الكريم والمعاني التى يحملها أسلوبه البليغ من أفضل الخصال التى تميز بها أسلوب الشيخ احمد ماضي وقد نجح الشيخ الجليل فى الاستعانة بالأسلوب القرآني بصورة كبيرة، تمكن من خلالها الإعراب عن أهدافه التى ينشدها من هذه الكتابات كما جاءت الآيات التى استعان بها فى موضعها الفعال والمؤثر ومن ثم قامت بتحقيق الهدف المنشود الذى يبتغيه الشيخ احمد ماضي من كتاباته ولعل حفظه الجيد للقرآن الكريم وإطلاعه الغزير على أكبر وأقدم التفاسير كانا من وراء تميزه فى الاستعانة بالآيات الكريمة.

فيذكر فى إحدى المقالات التى كتبها لصديقه الشيخ على يوسف قائلا ” وهكذا لو تأملت بعين الحكمة لرأيت الطبيعة تسوقنا إلى ما تريد بسوط مؤلم ولكننا نسترسل غير واقفين على الحد الأوسط مسرعين مع العادة على سراب بقيعة يحبه الظمآن ماء (2). وما هو الإظلام أوجبه عدم التبصر

 

  • جريدة المؤيد المصرية – يوم الاثنين، غرة جمادي الأولي، عام 1307هـ- الموافق 23 ديسمبر عام 1889م، العدد 16 ص 1.
  • سورة النور، من الآية : 39.

فى بحر لجي يغشاه موج من الفته من فوقه موج من الأهواء من فوقه سحاب يجب عن ملاحظة الحقيقة(1).

يلاحظ من يقرأ هذه السطور أن الشيخ احمد ماضي استعان بالأسلوب القرآني فى توصيل الفكرة التى يريدها على القراء بكل مستوياتهم الثقافية وهى تحكم العادات والتقاليد وكذلك الأهواء فى سلوكنا وأفعالنا. ولكي يؤكد لكل من يسير وفق هذه الأهواء والتقاليد أنه هالك لا محالة استعان بما جاء فى سورة النور من الآيات التى توضح هذا المعني وتبرزه وهو السراب الذى يحبه الكافر بريه ماء وما هو بالماء وفى ذلك بيان لمن ظن الخير من وراء الكفر، وانتظر النعيم من وراء الأهواء.

           ولكن يظهر الشيخ فساد النظر عن أهل الأهواء وأتباع التقاليد العمياء استعان بصورة قرآنية بلاغية تعبر عن شدة الحيرة والتشتت والعنت الذى يقع فيه هؤلاء لذا استخدام العديد من الكلمات التى تبرز هذا المعني من آية سورة النور، مثل بر لجي، من فوقة موج، فوقه سحاب فقد جسد هذه الكلمات القرآنية صورة أهل الضلال والأهواء الحالة التى انتهوا إليها.

ويستعين الشيخ احمد ماضي فى موضع آخر ببعض الآيات القرآنية التى تبين ضعف العقول التى يزعم أصحابها أن الإنسان يولد نتيجة النشوء والارتقاء وأنه لا فاعل سوء المادة ويقتضي ذلك اثباث التولد الذاتي وارتكاز الحياة على المادة وقول بقدم العالم.

ولكي يبرز الفساد والوهم الذى عليه أصحاب هذا القول استعان الشيخ بما جاء فى بعض آيات سورة يوسف ليرسم للقارئ صورة متشابهة مع الصورة القرآنية التى بنيت أوهام وأضغاث أصحاب سيدنا يوسف علية السلام عندما كان فى السجن.

فكما أن أقوال هؤلاء النفر وساوس شياطين ونتاج عقول فرية وقلوب مريضة كذلك فإن أقوال هؤلاء فى النشوء والارتقاء تتشابه مع الوهم والضلال الذى كان عليه هؤلاء النفر.

ولذا يصف الشيخ احمد ماضي هذه الآراء بقوله ” فإنها أضغاث أحلام خليتها له مخيلته، أو خزعبلات أو حتها إليه وساوسه من خرافات الغشاء شيء (1) و إنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التى فى الصدور (2) وهكذا استعان الشيخ الجليل ببعض الآيات القرآنية والأساليب القديمة لكي تقرب المعني وتوضح الهدف وترسم للقارئ صورة متقاربة من الصورة البلاغية المميزة التى رسمها له القرآن الكريم.

ولذا جاء أسلوب الشيخ موضحا للمعني ومبينا للهدف الذى يبتغيه الكاتب من ورائه

 

(1) جريدة الآداب المصرية 14 ذى القعدة، سنة –

(2) جريدة الآداب المصرية – الخميس 4 رمضان عام 1305هـ- الموافق 27 مايو، سنة 1887م- العدد 17، ص 17-18.

 

ج) استخدام الأساليب البلاغية والمحسنات البديعية:

         أظهرت كتابات الشيخ احمد ماضي قدرة كبيرة على امتلاكه ناحية اللغة العربية حيث يتميز الأسلوب بصور بلاغية ومحسنات بديعية قلماً لن تجدها عند كاتب آخر من كتاب هذا العصر.

فقد جاء بهذه الصور البيانية وبتلك المحسنات البديعية فى قالب أدبي يوضح المعني ويبرز الفكر بصورة غير متكلفة ونقية من المغالطات اللغوية والأخطاء النحوية التى تفسد جمال اللغة العربية وقدرتها على توصيل الفكر الصحيح إلى القراء.

ومما زاد الأسلوب جمالاً، حيث أن قدرة الشيخ احمد ماضي على استخدام صور المحسنات البديعية، من سجع وجناس وطباق فى توضيح المعني وإبراز الفكرة كما جاء بالصورة البلاغية والأشكال البيانية فى قالب قشيب يخدم الهدف الذى ينشد الكاتب ويرسم للقارئ لوحة فنية تمكنه من التعرف على ملامح المقصد الذى يتطلع إلية الكاتب من مقالاته.

ففى إحدى المقالات التى كتبها لجريدة الآداب ناصحاً صديقه الشيخ على يوسف يتبين لنا بلاغة هذا الأسلوب ودقة ألفاظه ومعانيه حيث يقول فيه ” فما لك راعاك هذا الليث ؟‍‍ألم تعلم أن السماء بيد الله يقلبها كيف يشاء وأن الأرض لله يورثها من يشاء، فدع الساكن وشأنه، والمتحرك وسلطانه وأقص عليك ما هو أعجب مما رأيت، وأغرب مما رويت كنت قبل أن أنزع جلابيب العادة ممن جال وجاب، وإذا سئل أجاب وكنت أقطع النهار فى طلاب ما طاب، وأواصل الليل فى استطلاع مسألة وجواب.

فحضرني فى بعض الأيام شيخ وغلام، فسلما ثم تكلما، فقال الرجل قد جئناك أيها الشيخ فيما قبل، إنك أبن بجدته، وسن لطبقته، فهل التحول لو ثم ما يحول؟

فقلت أعرب ولا تطنب، فإن كنت أعلم حل معضلتك وجواب مسألتك منحتك البيان، وبالله المستعان(1). فهذا النص يبين أمتلاك الشيخ أحمد ماضي لأساليب اللغة العربية وصورها البيانية وألوانها البلاغية دون أن يكون هناك تقصير فى توضيح المعني أو تجسيد الفكرة ومن الصورة البلاغية التى اتسم بها أسلوب هذا الشيخ ما كان يورده من أدلته ويبني عليها أركان مقالاته التى ينوي كتابتها.

فيفتتح إحدى مقالاته بقوله :” إذا ابتعد الشئ عن مصدره ظهر فى غير مظهره عناية بك وشفقة عليك أيها الباحث الشيخ على يوسف ضربت لك هذا المثال، ويحسن بي أن أشرح لك معناه من عالك الذى انت فيه(2)

  • جريدة الآداب المصرية – يوم الخميس 16 شوال، سنة 1304هـ- الموافق 7 يوليو، سنة 1887م، العدد 232 ، ص 69-70.
  • جريدة الآداب المصرية – يوم الخميس 4 رمضان سنة 1305هـ- الموافق 27 مايو، سنة 1887م، العدد 17، ص 17

 

ثم يأخذ فى شرح هذا المثل مستعيناً به فى كتابة المقالة الخاصة بهذا العدد وفى مقال آخر يكتفي الشيخ الجليل بأبيات من الشعر يري أنها أبلغ من النثر فى الإعراب عن مكنون نفسه وما يجيس به صورة فيقول مخاطباً صديقه الشيخ على يوسف ( الباحث بن العصر):

”  هذه نشوة طرب، بل هزة عجب، قد سئمت من المجد فى الجد، فبالله عليك إلا ما ألقيت سمعك جاعلاً ما ألقيه عليك فى خبيئة الخفاء، فإنك بحفظ مثلها لجدير، وهذا الجواب عن سابق الاستغراب:

عللاني أو فاتر كأني وشأني              ودعاني أجب لمن قد دعاني

أنا أدري بحالتي يا خليلي                 فما تنفع المني والأماني

قلتما تنجلي الفيوم قريبا                   وصدقتكم لكن بأي زمان

رحم الله مهجتي قد براها          طول هذا السري وبعد المكان (1)

وهكذا السير سل الشيخ احمد ماضي فى البيان الذى عبر عنه بالشعر دون النثر ليؤكد لنا أنه على دراية بالألوان البلاغية للغة العربية، وأنه يمتلك موهبة كتابة الشعر كما يمتلك كتابة النثر ولكن تجد الإشارة إلى أن هذا اللون الأدبي قد تخفت فيه بعض الصورة البلاغية والمحسنات البديعية فى بعض مقالاته التى كان يكتبها بجريدة ” المؤيد” وذلك استجابة لدواعي الحال والمقال وكذلك لمقتضيات تطور العصر.

قد جاءت المقالات التى سطرها الشيخ احمد ماضي فى كل من جريدة الآداب وجريدة المؤيد متنوعة الموضوعات متعددة الجوانب العلمية والثقافية وهذا يشير الى سعة ثقافاته كما يظهر تعدد أدواته وأساليبه البلاغية ويشير الدكتور عبد اللطيف حمزة على أن الخصائص التى كانت تميز المقالة الصحفية فى المرحلة المقالية الثانية (1882-1900م) وهى المرحلة التى تضمن الشيخ احمد ماضي وغيره من الكتاب والأدباء عبارة عن خمس خصائص، هى:

الخاصية الأولي: من هذه الخصائص غلبة الأسلوب الخطابي على مقالات هذه المدرسة.

والخاصية الثانية: أن المقالة الصحفية عند رجال هذه الحلبة أخذت شكل الدرس أو الشرح المفصل والمفيد.

الخاصية الثالثة: هى شيوع الجد إلى حد الصرافة والحزن بسبب الأحوال العصيبة التى مرت بها مصر فى ذلك الوقت.

الخاصية الرابعة: شيوع السخرية فى مقالات هذه المدرسة.

الخاصسة الخامسة:شيوع الانفعالات(2).

  • جريدة الآداب المصرية – يوم الخميس 9 شوال، سنة 1304هـ- الموافق 10 يونيو سنة 1887م، العدد 23، ص 63.
  • انظر: د/ عبد اللطيف حمزة: أدب المقالة الصحفية فى مصر – دار عالم الفكر – القاهرة طبعة أولي 1950م 2:219-221.

 

وقد ارتبطت هذه الخصائص بالشكل المضمون أما الخصائص التى تميز أسلوب هذه المدرسة المقالة الثانية فهى:

الخاصية الأولي: تخلص المدرسة الصحفية الثانية تخلصاً يوشك أن يكون نهائياً من السجع والجناس وغيرهما من الألوان البديعية التى فتن بها أكثر تلاميذ المدرسة السابقة لها.

الخاصية الثانية: أن أفراد هذه المدرسة قد استعاضوا عن السجع بخاصية أخرى وهي الازدواج أو التقطع الصوتي، وجزالة اللفظ وحسن اختياره ووضعيته فى أضيق مواضعه.

الخاصية الثالثة: تأثر المقالة الصحفية بأسلوب القرآن الكريم فجميع الكتاب بدون استثناء يؤثرون ألفاظ القرآن الكريم وتراكيب القرآن.

الخاصية الرابعة: تأثر الأسلوب الصحفي كذلك بأسلوب المقامة.

الخاصية الخامسة: ظهور الفرق الكبير للغة المقالة وبين لغة الآداب الخالصة (1).

وقد تحققت كل هذه الخصائص فى كتابات الشيخ احمد ماضي فى جريدة المؤيد أكثر من تحققها فى جريدة الآداب، ولكن تجدر الإشارة إلي أن هذه الخصائص التى تتعلق بالأسلوب والتى ذكرها الدكتور عبد اللطيف حمزة أغفلت مهارة أبناء هذه المدرسة المقالية الثانية فى استخدام الصورة البيانية والأساليب البلاغية دون إفراط أو تفريط على حساب المعني أو المضمون.

ومن ثم خفف رواد هذه المدرسة من هذه المحسنات البديعية فى بعض المقالات ورجعوا إليها فى مقالات أخري، حسبما يقتضي الحال أو المقام وهذا ما فعله الشيخ احمد ماضي عندما كشف من الصور البيانية والمحسنات البديعية فى مقالات جريدة الآداب، ثم استعاض عنها بأسلوب سهل ميسر وبليغ أيضا فى جريدة المؤيد.

وهذا ما أكده الدكتور محمود شريف حين قال : ” ومن ناحية أسلوب مقالة المرحلة الثانية وشكلها فقد استقر التأثير بأسلوب المحسنات البديعية المؤشر بالسجع المهتم بتناسب حجم الجمل وجرس موسيقيها تأثراً بأسلوب المقامات العربية التى كانت تدرس كقطع نثرية لكل من يريد أن يتعلم من الكتابة”.

وقد سلمت بعض المقالات من اساليب المحسنات البديعية لانشغال كتابها بمضمون مقالاتهم الذى فرض نفسه عليهم بقوة تحت أسلوب الوضع وأهم السمات اللغوية التى ميزت مقالات المرحلة أنها عبرت مشكلة الألفاظ الأعجمية وحققت الكثير فى مجال السلامة اللغوية لغةً ونحواً، وحاصرت التراكيب الأعجمية تماماً(2).

  • السابق: 2/221-224.
  • د/ محمود شريف: فن المقالة الأدبية الموضوعية الصحفية – مكتبة أبو للو القاهرة – الطبعة الثانية 1409هـ- 1989م، ص 98.

ونري أن هذه الآراء صحيحة فى مجملها إلا أننا نريد أن نوضح أن تمتع رواد هذه المدرسة بالمهارات اللغوية والأساليب البلاغية منهم القدرة على تطوير أسلوب المقالة الصحفية حسبما يقتضيه الحال أو المقام، ولكنهم لم يغفلوا عن الرجوع إلى الأساليب البلاغية والمحسنات البديعية فى قوت ما يحتاج الموقف أو يتطلبه الوقت المناسب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى