سعادة البلاد وثروتها

سعادة البلاد وثروتها

العدد 4 السنة الأولى بتاريخ 9 ديسمبر 1889 م الموافق 19 ربيع الثاني سنة 1307 هـ

بماذا تسعد البلاد وتثرى ؟ هذا سؤال اشتغل كثير من العلماء والسياسيين بحله وقد وضعته هذه العصور المتأخرة موضع الأهمية العظمى فلهجت به الملوك والرؤساء لأرباب الحل والعقد حينما حثت الأمم مطايا المسابقة إلى التقدم والثروة وسارت سيراً حثيثاً وكان عاقبة سبق السابقين تلاشي المقصرين ولقد كانت الأجوبة على هذا السؤال من الأسباب التي زادت في صفحات كتب الاقتصاد السياسي وهي مع كثرتها لاتخلو من التحسينات الكلامية وإخراج الكلام على مقتضى الأوهام الفلسفية كما هي عادة كثير من الكتبة فلم تجمع أدويتها عند استعمالها لإحياء أجسام بعض الهيئات المدنية

قال بعض السياسيين إنني أتيقن أن أحسن جواب واخصره على هذا السؤال هو اللفظ الذي لا يجهله احد يريد ( العدل ) وإنه أيضا لأنجح الأدوية وأصدقها تجربة , وهذا الكلام لا يخرج عن معنى ما قالته القدماء ( العدل أساس الملك ) وهو مع بساطته الظاهرية من أعوص المسائل وأغمضها

العدل وان كان يختلف باختلاف مواضعه فإنه لا يخرج عن كونه ضد الظلم واصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه قال في الصحاح الظلامة ما تطلبه عند الظالم

والسبب في كون العدل أساس سعادة البلاد والظلم داعية خرابها وتقهرها هو أن الطبيعة التي بسطت للإنسان بساط الرغد وأمدته بحيوانها ونباتها لم تتكفل له بإيصال الملك إليه وهو على مهد الراحة كما أوصلت إليه بعض الأشياء الضرورية كالضوء والحرارة لكي ينتفع بها والهواء الذي يتنفسه بل منعته منه وباعته له بثمن هو العمل فالعمل رأس مال الإنسان , فإذاً لقهرت الأمم وضعفت حياتها المدنية فإنما يكون ذلك لبخل الطبيعة عليهم بما تحتاجه حياتهم حيث لا قدرة لهم على بذل ذلك الثمن ومحال أن يحتاج الإنسان للشيء وترتفع من دونه الموانع ثم هو لا يعمل للحصول عليه والذي يمنع الإنسان عن العمل إنما هو اختلال ركن من أركان العدل والعدل ينقسم إلى قسمين لأنه أما أن يكون متعلقاً بتخريج الجزئيات على وفق القواعد الكلية الثابتة طبق شريعة أو قانون غير ناظر صاحبه إلى كون ذلك صالحاً أو غير صالح , وهذا هو العدل القضائي الذي مرجعه إلى فصل الخصومات وإيتاء كل ذي حق حقه ولا يتحقق إلا إذا اعتدلت شريعته وصلح القائم به وقرب نواله وسنأتي على ذلك في كلام آخر ونبين هنا أهمية النوع الثاني من العدل وهو الذي يتعلق بتشريع الشرائع وتدوين القوانين ويسمى بالعدل السياسي ومعلوم أن الأمة إذا ظفرت بحاكم سياسي عادل ظفرت بالسعادة العظمى ونمت خيراتها ودرت بركاتها ذلك لان العدل السياسي بتناول رؤوس الأمور وعظائم الأعمال فمن شأنه ان يوطد دعائم الملكية على نظام صحيح كافل للعامل نتيجة ما يعمل وان يجعل تلك النتيجة بمقدار ما صرف في العمل من القوة الجسمية والعقلية وان يقر أو يمنع الاحتكار والمباراة في بعض الأعمال حسب الحاجة وان يعدل ما يمكن تعديله من الاحتكارات الطبيعية التي تضر العاملين في الأشياء التي تحت سلطتها وبالجملة فالحاكم السياسي بيده مقاليد الأمور فإذا كان عادلاً مريداً للخير عالماً بما يجب لجيله نجحت الأمة وسعدت به ولقد كانت بلدنا هذه في حاجة إلى هذا العدل منذ زمن غير بعيد حتى تولى إدارة أعمال الحكومة فيها دولة ناظر نظارها

قال بعض الفضلاء المصريين فى ذاك الزمن أن معظم ما تربيه المدارس في مصر من التلامذة تخسره البلاد ولا تنتفع به إذ أنه يربى ليكون مستخدماً في الحكومة فقط فإذا لم ينل هذه الغاية لم ينفع في عمل آخر وان ذلك لسوء في توزيع الأموال على الأفراد وعدم مقابلة النتيجة بالأجر وإلا لما ازدحم كثير من التلامذة على أبواب الدواوين وتركوا الأعمال النافعة ثم قال وإني لا أرى لذلك دواء كأنه لم يعلم أن بين رجال مصر إذ ذاك من يراقب الأمور ويعد لها عدتها وهو دولتلو رياض باشا ناظر النظار فإنه داوي هذا الجرح بتلك اللائحة التي سنت لقبول طالبي الدخول في خدمة الحكومة وسعادتلو على باشا مبارك الذي اهتم بشأن المدارس حتى صارت تنتج تلامذة مرشحين لجميع الأعمال

ولقد برهنت أعمال هذه الوزارة الصادقة الوطنية على أنها ناهجة منهج العدل ومختطة خطة السداد وسائرة بالبلاد في طريق الفلاح فليهنأ المصريون ويقروا عيناً فإن الله ولي الصابرين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى