الدول والسلم

العدد 11 السنة الأولى بتاريخ 17 ديسمبر 1889 م الموافق 24 ربيع الثاني سنة 1307 هـ

قد كان الحرب في قديم الزمان يثور غبارها لأقل سبب ويدون احتدامها السنين الطوال وكانت تلك القبائل والأمم لا تبالي بالحرب ولا تعبأ بالسلم مع أنها كانت تتاجر بالنفوس في تلك الأسواق التي لا يمدح فيها من كسب ولا يرحم من خسر وذلك لأن أسباب معائشهم كانت في قيادة الخيل وغارات الليل وخوض المطمع وكانت أسلحتهم قاصرة على السيف والرمح والنبل وكان للبراز شأن عظيم في تقليل القتلى وتطويل مدة الحرب ولكن في عصرنا هذا عصر الآلات المرهفة والقنابل المبيدة والنيران المستعرة أصبح الحرب طامة كبرى وداهية , إذا قدح زندها عم لهبه أرجاء المعمورة فتداعى به العمران وذهب بها التمدن ووقع الفناء وتكورت شموس المعارف ولذلك ترى جميع الدول تأثر السيئة بالحسنة وتقابل جميع أسباب الحرب بسرعة الحل علماً منها بهذه الغاية المشئومة ومحافظة على تلك الهيئة المدنية الحاضرة قال السياسيون إذا كان الأصل هو السلم والحرب طارئ من الطوارئ فإنه لا يتسبب في زمننا هذا بين الدول العظيمة إلا من أمرين الأول شرقي والثاني غربي

اما الأول فهو لمطامع بعض الدول في وضع الأيدي على بعض بلاد المشرق والحقد على بعض الدول الأخرى التي نالت هناك المستعمرات العظيمة ومعاكستهم وإلقاء الصعوبات أمامهم في سبيل توسيع نطاق مستعمراتهم وبيست هذه المسألة بهينة لينة تأتي عليها الأيام وتهونها السنين فسيكون لها يوم ترقص فيه إعجاز الخيل وسنأتي على تفصيل تلك المسائل في فرصة أخرى خوف الإطالة وأما الأمر الثاني الذي هو غربي فهو اولاً المسألة البلغارية ومسألة فرنسا وألمانيا اما الأخيرة فهي تحت رحمة الحوادث الآن وربما كان حشد الجنود من الجانبين وتقوية الحامية مبعداً لذلك اليوم الذي تمحو فيه الأرض وتسود السماء

بل ربما كانت سياحة الإمبراطور الألماني الجديد المعروف بالرفق وحب السلم قد عملت على محو ذلك اليوم من دفاتر القرن الحاضر وأما مسألة البلغار فقد كان أهم خلف فيها تخفاف عاقبته واقعاً بين الروسيا واستراليا اما الأول فلأنها لا تحب بقاء فردنياند المخالف لجنسيها أميرا على البلغار وأما الثانية فلأنها تميل إلى ذلك وعلى كل فالسواد الأعظم يرجو حلها بينهما بمساعي نفس ذلك الإمبراطور , ذلك لأنه اهتم في احكام عري الوثاق بين الدولتين طمعاً في توطيد دعائم السلم فطلب سفير الروسيا في برلين وكلمه غير مرة في تلك المسالة ثم استدعى البرنس بسمارك من بعض ضياعه وتذاكر معه في ذلك ويقال أن البرنس بسمارك طلب سفير دولته في الروسيا ولا يعلم احد سبب ذلك الإرسال ولكن ارتأ بعضهم أن الإمبراطور سيحمله رسالة سرية إلى الروسيا وحيثما كان فإن من وراءه المسألة من يعتني بها ويهتم بشأنها ولكن ليست مسائل الشرق والغرب قاصرة على هاتين المسألتين فإن هناك مسائل حقيرة لا يبعد ان تعد كبيرة , منها ما حدث من الخلاف بين الانجليز والبرتغال في المؤتمر الدولي المنعقد في بروكسل للنظر في إلغاء الرقيق الذي نشرنا في المؤيد بعض أعماله وذلك لما صنعه الماجور بنتو من استيلائه على قبيلة الموغولوس الواقعة في شرقي إفريقيا جنوب زنجبار فاحتدك الانجليز وتوقدوا غضباً وانذروا دولة البرتغال بالويل والثبور أن لم ترد لهم حقوقهم في تلك البلاد وقد أنبأنا لسان البرق ان جرائد البرتغال تظاهرت باللين كأنها تطمئن خواطر الانجليز وتعدهم بتقديم تفاصيل تلك المسألة التي ستتعدل على طبق مرامهم ولكن الجرائد الانجليزية صدرت مشحونة بالوعيد والغلظة تكاد تتميز من الغيظ تعدهم بأنها ستنزع منهم ملحقات دولتهم التي على نهر الزنيليز فهذه مسألة شرقية غربية لا ندري إلى من تؤل ولكن إذا انفردت بها البرتغال كانت عاقبتها حميدة لأنها دولة ضعيفة لا تقوى على مناداة الانجليز ولا نظن ان يتداخل فيها احد وأما مسألة كريد واليونان فقد تلافاها أمير المؤمنين بمحكمته المشهورة فأصبح الآمن سائداً في أنحاء كريد وخسأ اليونان وبارت تجارتهم وحبطت أعمالهم وفي كل ذلك ما يدل على أن العالم الإنساني سيبقي زمناً طويلاً بدون تعب ولا نصب وان أيدي عساكر الأمم ستحمل السلاح للمحافظة على هذا وان ذلك اليوم الذي ينتفض فيه حجر من أحجار السلم بعيد والسلام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى