الجانب العلمي فى حياة الشيخ احمد ماضي ابو العزايم

أورثت التربية العلمية التى تربي عليها الشيخ احمد ماضي معرفة واسعة بالطب وعلومه، وقدرة متميزة على تشخيص الأمراض وعلاجها ثم مهارة نادرة على الإلمام بمعظم الأمراض القلبية التى تميز بين الغث والثمين من الناس والأمراض البدنية التى تفرق بين الصالح والفاسد منهم وقد تجلت هذه المعرفة الموسوعية بالطب فى العديد من المقالات والكثير من النصائح التى أسداها إلى صديقة الكبير الشيخ على يوسف.
فها هو ينصحه من خلال الحكمة التى تقول “إذا ابتعد الشئ عن مصدره ظهر فى غير مظهره” وتتجلي آيات النصح والإرشاد من الشيخ احمد ماضي إلى صديقة الشيخ على يوسف عندما يأخذ الأول فى شرح الحكمة والمتقدمة حيث يقول:
عناية بك وشفقه عليك أيها الباحث (1) ضربت لك هذا المثل ويحسن بي أن أشرح لك معناه من عالمك الذى أنت فيه.
هذا الهواء الذى بينك وبين المرئيات هو وإن كان مادة الظهور فى عالم الشهادة وبغيره لا تري شيئا لكنه جار على نواميس الظواهر فى التلبيس، فيريك الشمس طالعة قبل أن تطلع، ويركيها موجودة بعد أن غربت ومرة حمراء وأخري صفراء وتاره بيضاء، وصغيرة وكبيرة، وذلك لانكسار الضوء عنه.
وهكذا كل مادة من هذا العالم جعلتها وصلة بينك وبين كل شئ فلو وضعت عصائك إلى نصفها فى الماء ونظرات إليها لخيل لك أنها مكسورة من النقطة التى عند سطح الماء ومن هنا تعلم أن الألفاظ إنما هى وصلة بينك وبين المعاني وهى من هذا العالم فلابد وأن تلبس عليك الحقيقة وتظهرها لك فى مظهر غير مظهرها فتدبر (2).
هذه المعلومات الطبيعية تبرز ما يتمتع به الشيخ احمد ماضي من ثقافة علمية تقبض من ذاكرته التى غذتها التربية السديدة التى ربي عليها الوالد أبناءه.
- يقصد به الشيخ على يوسف حيث كان يعرف فى مقالاته بجريدة الآداب الباحث العلمي.
- جريدة الآداب المصرية – يوم الخميس 4 رمضان سنة 1305هـ- الموافق 27 مايو سنة 1887م، السنة الأولي العدد 17، ص 17، 18.
ومما يؤكد إداركه الجيد بذلك استرساله فى النصائح التى قدمها لصديقه الشيخ على يوسف عن استماله الدواء الى راء عضال بسبب سوء الفهم الذى يعتري بعض المرضي أثناء مرحلة العلاج فيذكر الشيخ احمد ماضي فى ذلك أنه ” ربما استحال الدواء داء إذا عرض للهواء أو أخذ على غير الخواء. كما أن هذا الهواء البس على الباصر حقيقة المرئيات، فقد ينقلها من حالة نافعة إلى حالة مقرة (1).
ثم يضرب له مثالاً عملياً يتحول فيه الدواء إلى داء ليؤكد به سعة علمه ونفاذ بصيرته فى العلوم الطبيعة والاجتماعية ايضاً، إن شراب يودور الحديد الذى شهدت له الأطباء بأنه أعظم دواء للأنيميا وفقر الدم ، كان نافعا صار مضراً، ومثل ذلك بعض العقاقير التى من شأنها أن تستعمل على الخواء إذا استعملها أحد على الامتلاء أفسدت معدته وربما قتلته إن لم يقذفها.
ومن هنا تعلم أن وضع الدواء فى الهواء ما هو إلا كوضع السر فى جواء الإذاعة وشرب الدواء على الامتلاء ما هو إلا كسماع الحقيقة بأذن ممتلئة مجازاً (2) وهكذا يربط الشيخ احمد ماضي لصديقه الشيخ على يوسف العلم بالحياة ويأتي له بما يوافق الواقع من العلوم حتى يتبين له الهدف من النصيحة.
وتتكشف ثقافة الشيخ العلمية أيضا عندما يتحدث عن الحرارة وانفعال الأجسام بها حيث يبين تضارب آراء المتأخرين من علماء الغرب مع المتقدمين من علمائهم فى مسألة علمية دقيقة يوضح فيها مواضع الخلل ويكشف سوء الفهم الذى حدث بسبب جهل المتأخرين باللغة العربية واصطلاحاتها.
فيشير الشيخ ماضي أنه ” علينا ان ندرك الآن أنه لم يمكننا بجميع وسايط العلوم الطبيعية معرفة تأثير الأدوية فى الأنسجة إن كانت بقوة كامنة فيها أو بتغيرات مادية أى تغيرات فى وضع الدقائق التى تألفت منها المادة، والأدوية النوعية كتأثير الحامض على المقلة والزيبق فى الزهري والذراريح على المثانة كما أننا لا نعلم ظواهر بعض الأجسام التى يقال إنها فيها بالقوة المغناطيسية فى الحديد والحرارة التى تحصل من التفاعل.
فلو اطلعنا على ما ذهب إليه الأقدمون وقابلناه بما ذهب إليه هؤلاء الذين فاتهم العلم لجهلهم باللغة العربية واصطلاحاتها أن يعبروا عن المعاني باللفظ مطابقة لها فى الواقع، ليظهر لنا أنهما على طرفي نقيض مع قصور الأوائل وتقصير الأوامر لأننا لو تتبعنا كلام الأقدمين فى الحرارة مثلا نراهم مرة يحملونها على المزاج فيقولون الصفراء حارة يابسة، والدم حار رطب والزنجبيل حار يابس وهكذا.
- انظر : مقالة الشيخ احمد ماضي بجريدة الآداب المصرية – يوم الخميس 4 رمضان سنة 1305هـ الموافق 27 مايو، سنة 1887م، العدد 17،
- المرجع السابق: 18.
ومرة يحكمون عليها أنها أخف، أو يقولون عنصر النار أخف العناصر لأنه الحار وأنت خبير أى القارئ أن النار عندهم ليست سوي الحرارة لجهلهم بوزن الهواء والضغط الحاصل منه على الأجسام المستلزم لارتفاع الأجسام المتخلفة بالحرارة.
وكانوا يقولون إن كل شئ يطلب عنصره ولما كان عنصر النار هو الأعلى فكل حار يطلبه بالطبع، وكذلك الزق المنفوخ يرتفع من الماء لأنه يطلب عنصره وهو الهواء ويعبرون عن هذا بالتجاذب الطبيعي ( مصطلح علمي) ومن هنا نعلم أن الحارة عندهم كانت جسما (1).
ويتابع الشيخ ماضي ما ورد عن العلماء الغربيين المتقدمين والمتأخرين ويرصد تضارب أقوالهم وأخطاء منهجهم فى الكشف عن طبيعة الأجسام الحارة واليابسة بسبب الاحتكاك أو الاتحاد بينهما وكذلك المنطق بالآراء التى تقضي إلي أن الحرارة أمر اعتبار ناشئ من اتحاد الأجسام أو احتكاكها ثم يقدم البراهين العلمية التى تثبتي فساد أقوالهم وعيوب منهجهم.
فينهي إلى أن الحرارة ليست أمرا اعتباريا لأنه الشئ المطيع لنواميس الضغط لا يمكننا أن نقول إنه أمر اعتباري(2).
ومما تجدر الإشارة إليه فى الجانب العلمي عند الشيخ أحمد ماضي ما قام به تجاه ما قال به ( دراون) فى النشوء والارتقاء، ونسبة الإنسان إلى أجداده من القردة.
فيري أن هذا الرجل تظاهر ” برأي مادي مخالف لنواميس كل ملة، مضاد لكل فضيلة،ـ مقتضاه لا فاعل سوي المادة بناء على دعامتين:
مقتضي الأولي إثبات التولد الذاتي وهو المعني بالنشوء، ويراد به نشوء الحياة من المادة بقوة فيها. وبارتكاز هذه على قدم العالم ينفي وجود قوة مبدعة أبدعت العالم من لاشيء أو بثت فى الأحياء الحياة، فالنشوء عندهم هو تولد الحي من لا حي بفعل القوي الطبيعية. ولهم على ذلك بعض أحاديث شبه شئ بفكاهات أولي للبطالة.
والدعامة الثانية: ارتقاء الحي من الدرجة الدنيا إلى أعلي منها وهكذا وبهذا الارتقاء تتكون سلسلة أدناها ( البروتوبلاسما) أى الحي الأول، وأعلاها الإنسان، ويلزم من ذلك بطلان الأنواع(3).
- جريدة الآداب المصرية – يوم الخميس 23 شوال، سنة 1304هـ- الموافق 14 يوليو، سنة 1887م، العدد 24 ص 79- 80.
- أنظر: جريدة الآداب المصرية – يوم الخميس 23 شوال، سنة 1304هـ- الموافق 14 يوليو، سنة 1887م، العدد 24 ، ص 81.
- جريدة الآداب المصرية – الخميس 14 ذو القعدة، سنة 1304هـ- الموافق 4 أغسطس، سنة 1887م، العدد 27، ص 101-102.
ثم يسترسل الشيخ ماضي فى شرح نظرية دراون مبينا بعدها عن الشرائع الإلهية والعلوم الطبيعية، حيث يقول وهذا الارتقاء أسسوه على بعض مؤثرات طبيعية على زعمهم فرازاً من الوقوع فى الصدفة أو فعل الاختيار وهى:
أولا: تنازع البقاء ما بين أفراد الحيوانات.
ثانيا: تكون التباينات أو تغير الأفراد، يعنون بذلك تغير بعض أفراد الحي المتشابة ومخالفته صورة
لباقي الأفراد المتشابهة.
ثالثا: انتقال هذه التغيرات فى النسل بالوراثة.
رابعا: انتخاب الطبيعة للمتغير من هذه الأفراد الذى يكون فيه بعض أفضلية.
وذلك الانتخاب مبني على تنازع البقاء فهذه العوامل على زعمهم كافية لأن تجعل أدني رتبه من الحيوانات فى أوجه الكمال، ومن هنا يقفون موقف التعجب يعجبون بأصوات الحيرة والذهول، قائلين: أى فرق بين الإنسان وبين غيره من الحيوانات؟ وما هى النفس التى اختص بها؟ وفى أى وقت تقاص عليه هذه النفس؟! فليس أبونا الأول إلا القرد، أو أصل آخر تفرع منه جملة فروع، منهم الإنسان والقرد. فهما أولاد أب واحد.
وقد أضطرهم القول بنفي الروح أو النفس إلى أن جعلوا الحياة التى هى عندهم ناشئة من التركيب أو من الحركة أو هى الحركة ليست شيئا آخر سوي المادة، وأعظم برهان لهم على ذلك، أن جميع المشرحين لم يعثر وانحت نصل مشرحتهم بشئ يقال له نفس ولا روح(1).
ثم يمضي الشيخ أحمد ماضي فى نشر الرد العلمي الذى يدحض هذه الآراء ويهدم أركان هذه النظرية من خلال هذه المقالة العلمية الجامعة ولكن يقصر المقام عن سرد هذه الإجابات الشافية التى سرطها الشيخ على صفحات جريدة المؤيد فى ذلك الوقت، ونكتفي بإحالة القارئ الكريم إلى نص المقالة فى القسم الثاني من هذا البحث وبالجملة فإننا أمام شخصية موسوعية اتسعت جنباتها للعديد من العلوم والكثير من الثقافات العربية والأجنبية، الأمر الذى يدعو إلى مزيد من البحث والتنقيب عن الآثار العلمية والأدبية التى تركتها لنا هذه الشخصية، وتحتاج إلي مجموعة من الباحثين الجادين فى العمل البحثي حتى يخرجوا لنا واخفي علينا فى هذا البحث أو بعد عن أيدينا فى هذه الدراسة.
- جريدة الآداب المصرية – يوم الخميس 14 ذى القعدة، سنة 1304هـ- الموافق 4 أغسطس، سنة 1887م، العدد27، ص102-103.