الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة

الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة

 يطلع هذا العدد من مجلتنا المدينة المنورة وقد تأهب الحجاج بمكة المكرمة إلى الموقف العظيم بعرفة الذي هو الحج بعينه مصداقا لقول الرسول الكريم [ الحج عرفة ]. هذا هو الموقف الذي تتجلى فيه روعته ويأخذ بالألباب مشهده يقف فيه الناس جميعا سواسيَ لا فرق بين ملك ومملوك عراة الرءوس حفاة الأقدام شعثا غبرا يهتفون بنداء واحد هو [ لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك ]. وأنا بدوري أشارككم من قرارة نفسي وحشاشة لبي هذا النداء فهو لب التوحيد وشعور فياض بأكمل معاني التحميد والتمجيد – لا بل هو نداء الاستجابة لدعوة ملك الملوك . ولعمري إنها دعوة علوية لحظوة قدسية ، وكم ينبه بها الإنسان على سائر المجموعات الكونية لهذه العزة الإلهية التي يتمتع فيها بمواجهة رب البرية .

        تصور أيها القارئ الكريم هذا المشهد الروحي وانعم بهذه الإستجابة لهذا الوجه السبوحي ، وطف بخيالك حوالي هذه المجموعة من بني الإنسان في شتى البلدان هل تجد من هم أسعد حالا وأفضل وصالا من هذه الفئة التي استجابت لله دعوته وقامت لتؤدي له فريضته ؟

        وتمثل هذه الحظوة الفدسية بعد الترك لمشاغلك الكونية واستحضارك وأنت في حرم الله وبيته العتيق الذي هو أول بيت وضع للناس ، وهذا التأهب السريع لملاقاة العزيز الرفيع بعرفة تجد مصداق قول الرسول الكريم [ إنما الحج عرفة ] وما أدراك ما عرفة ؟ سهل منبسط فسيح تتوسطه تبة هفية تعج بالحجيج من أطراف المعمورة وتتوافد إليه من كل فج عميق من الصباح الباكر لتاسع ذي الحجة حتى قرب المساء . فإذا كان المساء وغابت الشمس تدافع الناس ثملين من بهجة اللقاء وما وجدوه من أثر الرحمة التي عمت جميع الأرجاء حيث يناديهم الحق سبحانه بلسان مبين غاية في الجلاء من سويداء قلوبهم : إرجعوا مغفورة ذنوبكم مأجورا جهادكم في سبيل التمتع بلقائي والتملي بجزيل نعمائي ، أنا الرب القريب دعوتُ عبيدي إليَّ فأجابوني وأنا الذي هديتُ ووفقتُ وأعنتُ وقد غفرتُ لكم ما اقترفتموه من ذنوب وبذرت في قلوبكم محبتي وغذوتها بنيل المكلوب – ومن أحسن من الله حديثا :

تالله إن الحج نيل القصد    **    في نعــــــــــمة الله لهذا الوفد

ورحـــــمة منه لكل فــــــــــرد    **    من قام للحج لكن بؤد

فريــــــــــــضة الله بغــــــــــير جهد    **    بقلب خاشع وحال وجد

يطوف بالكعــــــبة حال ورد    **    ويسعي بين المروتين يجدي

هما شعائر الله لكل عبد    **    يسعى إليهما الفتى المجد

وقوف عرافات ينبي وجدا    **    مولاه إذ وفاه نيل القصــد

        هذا هو الحج المبرور والسعي المشكور والذنب المغفور والأمل المرجو لهذه التجارة التي لن تبور ، فهذا العمل الجليل الذي يتقرب به العبيد إلى مولاهم إذا دعاهم وصافاهم لحظوته العلية ، أوصلهم فاجتباهم ، فهل في أعمال العبادات الأخرى عمل يستحق عليه مؤديه وليس له جزاء عليه من مولاه يوفيه غير الجنة ؟ لا والله :

  • فهذه الصلاة طهارة للجسد والروح وعمل هو في صالحهما معا ،
  • وهذا الصوم كذلك تتبين فيه أثر المصلحة الشخصية للفرد إصابة صحته وحفظ عافيته،
  • وهذه الزكاة طهرة للمال وتزكية للنفس وذكر حسن يبقى بين الناس وهو مطمح نظر عظماء الرجال من الحكماء والعلماء والصديقين والأنبياء حيث سألها الخليل مولاه الجليل عز وجل في قوله { واجعل لي لسان صدق في الآخرين }،
  • وهذا الحج الذي تخرج إليه الناس فارين من أعز الأشياء إليهم من أموالهم وأعراضهم وأهليهم – ولكن لمن ؟ لله الواحد الأحد الذي يعطي الجزاء من جنس العمل ، فهل تراهم يجازيهم مولاهم على هذا العمل المبرور والسعي المشكور إلا الجنة التي حدها لهم العزيز الكبير { عرضها كعرض السماء والأرض } وغمرهم بنعم لا يحصيها العقل ولا يقدرها . وما شأننا نتحدث عنها بعد أن ذكرها لنا الرسول الأمين الحبيب المحبوب ونور الله المشرق على القلوب بأن { فيها ما لا عين رأت ولا إذن سمعت ولا خطر على قلب بشر }. اللهم اكتب لنا أجر حجاج بيتك الحرام ، واكتبنا معهم وإن كنا في الغفلة قيام ، وابسط علينا أياديك الحسان ، وحقق رجاءنا في نيل هذه الحظوة القدسية حتى نتمتع بزيارة خير الأنام لنحظى بمناجاة سكان هاتيك الديار من البررة الأخيار :

إيا ساكــــــــــــــــني نجد ويا آل طيبة    **    نما الشوق منوا لي بوصل نظرة

عيون فؤادي شاهدت نور حسنكم    **    وها أنا أرجـــــــــــــــــــــــــو أراكم بمقـــــــــــــــــــلتي

بعدت بهذا الجسم والقلب حاضر    **    وكل أطــــــــــــــــــوف ربـــــــــــــــــوعا بطيــــــــــــبة

أراكم بعين القلب والوصل منــــيتي    **    خذوني بكلــــــــــــي سادتي بحنـــــــــــــــــانة

ومن لي إلى هذا الجـــــــــــــــــــــــوار وما به    **    من الفضل والحسنى بروضات جنة

عليكم سلام الله ما هبت الصبا    **    وأشرق من أفق الصفا نــــور طيبة

المدينة المنورة : السنة 10 العدد 21 : ص 7 .

الجمعة 3 ذو الحجة 1356 هـ  –  الموافق 4 يناير 1938 م .

محمود ماضي أبو العزائم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى