عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ﷺ
[ أكثروا ذكر هادم اللذات ، فإنكم إذا ذكرتموه في ضيق وسعه عليكم فرضيتم به فأجرتم، وإن ذكرتموه في غنى بغضه إليكم فجدتم به فأثبتم . إن ذكر الموت قاطع الآمال ، والليالي مدينات الآجال ، وإن المرء بين يومين : يوم قد مضى أحصى فيه عمله فختم عليه ، ويوم قد بقي لعله لا يصل إليه . وإن العبد عند خروج نفسه وحلول رمسه يرى جزاء ما أسلف وقلة غناء ما أخلف ولعله من باطلٍ جَمَعَهُ ومن حق مَنَعَهُ ]
حديث الموت للحر النبيل * حديث فيه من أثر جلـــيل
يهذب نفــــسه يزكي لخـــُــلُقٍ * كـــــــريم قد يعوض بالجميل
وكيف ألبست الدنيا هـباء * متى قيست وأعْـــوَزُ للدليل
أجل والله إن حديث الموت لرهيب وإن سره لعجيب ، كشف لنا القناع عنه مولاه ومن قضى به على العباد وأسماه – قال تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم { تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير * الذي خلق لكم الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور } وبين رسول الله ﷺ في هذا الحديث وجوب ذكره وحببه إلينا على ما يبدو للنفوس من نكره فقال ﷺ [ أكثروا ذكر هادم اللذات ] أمرا بالوجوب قطعه وطريقا إلى خيري الدنيا والآخرة فتحه ، ذلك لأنه يحز في الذات الإنسانية فيقطعها وإلى الأهواء البشرية فيصرعها لا يُبقِي عليها من قليل ولا كثير ، إذ ليس للنفوس أبغض من الكمود كما أنه لا أحب إليها من الخلود خلة آدم التي أخرجه الله من أجلها من دار الخلود وأنزله إلى أرض الطبيعة والجحود . على أن هذا الذكر فيه من الفوائد التي بينها رسول الله ﷺ في صدر الحديث حيث قال [ فإنكم إذا ذكرتموه في ضيق وَسَّعَهُ عليكم فرضيتم به فأجرتم ] وأي ضيق بعد الموت للإنسان يلاقيه ؟ وأي شدة لا تهون إذا قيست به في جميع أمور الدنيا من غير تشبيه . أجل والله إذا ذُكر الفقر المدقع مع الحياة في صحته لكان أهون على الإنسان من الموت ولكان أعذب على قلبه وأطيب بل لحسه محبب :
نعمة الحياة خير من الموت * ولو كانت في شدة أوضيق
يكسب المرء في الحياة مــن * الخير ثوابا يرجوه بالتحقيق
وكيف لا وقد كان رسول الله ﷺ يؤاخي بين أصحابه ، فذُكِرَ له من أصحابه أخوين من أصحابه رضوان الله عليهم توفى أحدهما وبقي الآخر ، فذكر له أصحابه أفضلية المتوفي – فقال لهم ﷺ وأين عمل أخيه بعده ؟ هذا العمل الذي يقوم به الحي في هذه الحياة لا بد أن يثاب عليه من صلاة وصيام وقيام وزكاة وحج فترجح بذلك كفة الحياة على كفة الموت ، وكيف لا وقد قال ﷺ [ طوبى لمن طال عمره وحسن عمله ] . هذا من وجهٍ ، وأما الوجه الآخر فإن ذو الشدة والضيق إذا تذكر الموت حسب ولا شك أن كل شيء هالك لا محالة وأيقن أنه لو ملك مال قارون وأُوتِيَ ملك سليمان لا بد وأنه يفارقه طوعا أو كرها بهادم اللذات ومفرق الجماعات فرضيَ عن الله فيما قدَّر ويتصور قدر حسرته إذا كان قد ملك ما في الدنيا جميعا وهو خارج منه لا محالة فوَسِعَهُ حالُهُ فأُجِرَ بهذا الرضا رغم أنفه كما قال ﷺ [ يؤجر المؤمن رغم أنفه ].
ثم قال ﷺ [ وإن ذكرتموه في غنىً بَغَّضَهُ إليكم فجدتم به فأنبتم ]: يا للعجب من هذه الدراري الغَوال وهذه الحكم العوال التي يحتار فيها عقل اللبيب !! وكيف لا وهذا الغنى متى ذُكِرَ الموتُ وهو في سربال غناه ونعمته أيقن زواله عنه وتحقق فناءه منه بهذا الموت العاجل الذي سوف يأتيه ولو بعد حين ، حينئذ تستعلي عليه همة البذل والعطاء والإكرام للضعفاء والفقراء وإيتاء حق الله تعالى كاملا غير منقوص خيفة أن يُحاسَبَ عليه بإهمال أدائه إليه { إن الله يقبل الصدقات }.
ثم عطف ﷺ منذرا فقال [ إن ذكر الموت قاطع الآمال والليالي مدنيات الآجال ] مبينا وصف الموت الرهيب بأجلى بيان وأوضح برهان ، فالموت إذاً كما قال ﷺ في صدر هذا الحديث [ هادم اللذات ] أي قاطعها هو الذي يحول بين الإنسان وبين فسيح أمله في هذه الحياة وكذلك مر الليالي والأيام إنما يدنيه من أجله المحتوم الذي لا بد أن يلقاه { وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت }.
ثم واصل ﷺ واعظا مذكرا هذا الإنسان الذي أعماه غروره بأيامه وأنساه الواجب عليه شيطانه فقال [ وإن المرء بين يومين : يوم قد مضى أحصي فيه عمله فختم عليه ] وصدق الشاعر حيث قال :
ما مضى مات والمؤمــــــل غيب * إنما لك الساعة التي أنت فيها
ولا أجدى بالإنسان الذي منحه الله تعالى ميزة العقل من أن يخلو بنفسه كل يوم مرات عدة بحسب أوقات الصلاة فيذكر ما مضى منه ، فإن كان خيرا شكر ، وإن كان شرا استغفر . وهذا الذي مضى إنما قضاه من عمره وصرفه في عمل خير كتب له أو ما هو ضده كتب عليه فليعتبر الإنسان بما مضى من أيام عمره وليذكر أنه ملاق ربه ومحاسبه على ما قدمت يداه . [ ويوم قد بقي لعله لا يصل إليه ] وهذا اليوم الباقي من الحياة المليئة بفسيح الأمل لعل الموت يعاجله فيه فيحول بينه وبينه أو يصرفه عنه ولم يقض منه بعد ما يريده ويتمناه .
ثم هو ذاك يذكرنا رسول الله ﷺ بما بعد الموت ويكشفه لنا أمرا صريحا وقولا رجيحا فيقول [ وإن العبد عند خروج نفسه وحلول رمسه يرى جزاء ما أسلف وقلة غناء ما أخلف ولعله من باطل جمعه ومن حق منعه ] : صلى الله عليك يا حبيب القلوب ونور الأبصار والبصائر ، أنت بما أتيتنا به من خبر الموت وما بعد الموت . حدثني سيدي أبو العزائم رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى{ وخلقناكم أطوارا } أن الإنسان يتقلب خمس أطوار فيما قدر له من حياة :
- طور حين يكون نطفة في ظهر أبيه وهو الطور الذي يؤخذ فيه الميثاق من ذراري آدم والمعنــِـيِّ بقوله تعالى { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم } ؟ هذا الطور أو هذه الرتبة يكني عنها أهل الذوق بمرتبة ( ألست ) ،
- وطور يتخلق فيه في بطن أمه من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام ثم يستر هذا العظام بغشاء الأنسجة الذي هو اللحم ، ثم ينشئه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين .
- ثم طور الطفولة والمهد .
- ثم طور التكليف والقيام بالعهد .
- ثم طور البرزخ وهي حياة أخرى قد تزيد أو تنقص بر الإنسان لأهله وذويه في هذه الحياة . وهذا الطور وهو حياة البرزخ حياة للروح يكشف لها عنها ستار الغيب فتنعم بما أسلفت من عمل جميل أو تحزن على ما فارقت من إثم وبيل فهو في هذه المرتبة أو الطور من أطوار حياته يتحقق بجزيا فضل الله عليه جزاء لما أسلفنا ، كما يجد قلة عناء مما أخلف من مال وبنين لا يغنون عنه من عذاب الله شيئا خصوصا إذا كان هذا المال قد جمعه من حرام أو حرم منه ذوي الحقوق والأيتام – حفظنا الله وإياك أيها الأخ من هذا الشر المستطير ووفقنا جميعا لنيل رضاء من ليس له شبيه أو نظير ، والله أعلم ، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
عبد الله :
محمود ماضي أبو العزائم
مجلة المدينة المنورة : السنة 12 : العدد 14 : ص 6 : الجمعة 20/10/1358 هـ الموافق 1/12/1939