أنا عند الفناء مراد قلبي

أنا عند الفناء مراد قلبي

{ الحمد لله الذي نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جنوبهم وقلوبهم إلى ذكر الله } . سبحانه جعله متشابها ليغترف منه كل على قدره قبسا من فيضه النوراني الذي استبان به الوجود ، فشمرَ عن ساعد الجد لكشف أسراره كل موجود ، جعل القلوب المؤهلة والهة لتعرف مكنون آياته ومضنون آلائه ، بيد أن هذا الحديث المتشابه بحر زاخر الأمواج متلاطمها تسير فيه سفن الفكر الراجح المتجمل بالعمل الصالح على ضوء شمس الهداية وقمر الدلالة محمد ص كما تسير هذه السفن على ضوء النجم الساطع عن هذه الشمس المحمدية عن طريق المقدمات اليقينية لا عن استنتاج القضايا المنطقية .
هذه المقدمات اليقينية التي يصوغها أهل المعرفة به سبحانه في لآلئ القول مقبولة لدى العقل مؤيدة بالعقل . هؤلاء العارفون هم ورثة رسول الله ص يبينون للناس ما تشابه عليهم من مكنون هذا الحديث ، لا – بل هم سرج عنه صلوات الله عليه أسرجهم بضيائه فاستبانت به الحقيقة بعد الإظلام وتبينت بهم المحجة بعد الإبهام .
وبعد :
فقد طلب إليَّ بعض أهل محبة الله تعالى – الذين وأن لم أرهم فقد تبينت خبرهم – أن أتحدث إليهم على صفحات المدينة المنورة التي أسماها سيدنا ووالدنا السيد محمد ماضي أبو العزائم بهذا الإسم أبان حياته لتكون شعلة هذا الضياء القرآني وهذا القبس العرفاني في تفسير بعض مواجيده رضي الله عنه ومنها القصيدة المشهورة المنشورة بالعدد رقم 17 والتي مطلعها : أنا عند الفناء مراد قلبي :
فأقول وبالله التوفيق وبه المستعان راجيا من الله المثوبة والغفران :
الفناء مرتبة ينمحي فيها وجود باطل في وجود حقي ، أو يتحد فيه وجود أدنى في وجود أسمى ، أو تتغلب فيه الحقائق الكمالية على رتبة عبدية ظهرت وتزكت فتنطق هذه المرتبة بلسان الحال عن الحقيقة التي تغلبت عليها . وبقدر كمال الإنسان في مراتب هذا الوجود يكون فناؤه عن الحقيقة التي اختارتها له العناية الإلهية والتي يتحد معها اتحادا إراديا فيكون مرادها هو عين مراده الذي ينبعث من أعماق قلبه ثم ينتشر مع كراته الدموية على ظاهر حسه فلا يرى إلا بالعين التي ترى بها هذه الحقيقة ولا يسمع إلا بسمع هذه الحقيقة – قال تعالى { أسمع به وأبصر } ولا يتحرك أو يبطش إلا بما كانت تتحرك له أو تبطش به هذه الحقيقة ، ألا ترى الحديث القدسي يوضح ذلك بجلاء [ كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ] فهذا الفناء إذاً هو اتحاد مغناطيسي يجذب كل حقيقة لأصلها – ونحن نرى في المعادن قوة هذه الجاذبية بل ونعطي الحديد الممغطس حكم النواة المتحكمة فيه .. فإذا قال أبو العزائم رضي الله عنه ( أنا عند الفناء مراد قلبي ) فإنما يشير من طرف خفي إلى الحقيقة الكاملة والتي يريد أن يُظهر مقوماتها السامية وخصائصها البادية في كل ما أشرقت فيه بلواعج الحب الصادق والوجد اللاحق الذي يشير إليه رضي الله عنه ( وعند الجمع محبوبي وحبي ) . والجمع هو حقيقة الإتحاد إرادة وعملا وقولا ، فلا لوم على أبي العزائم ولا عتب عليه أن كشف لنا عن الخبيئة التي ضمها بين جنبيه والتي يتحدث بقوتها الكامنة فيه عنها . ولنصغ إليه بسمع الروح حتى ننعم معه رضوان الله عليه بفهم هذه الطاقة الكلية ( محمد ص ) التي انفعلت معها العوالم وتجملت بها المعالم .
هذه الحقيقة الكلية تحدثنا عن نفسها بلسان من فنى فيها أو اتحد بها بحقيقة الجمع عليها حبا مؤيدا بوارد الحال والقال والعمل فيقول رضي الله عنه :
ونور الكنـــز بل كنز أضاءت  بمظهره الحقائق عند قربي
معلوم أن الحق سبحانه له تسع وتسعون إسما ، وهذه الأسماء منها ما هو جمالي فجلالي .. الوجود كله من العرش إلى الفرش مقتضىً لظهورها ، وكمال ليس له في غير الذات الأحدية تعلق الله إلا بمقدار ما يعلمه عبد الذات من تفرده سبحانه بها . فحضرة الأسماء كنز ، والرسول صلوات الله عليه لأنه كشف لنا الستار عن مكنون هذه الأسماء هو نور هذا الكنز . ولما جمله الله تعالى به وما أسبغه الله عليه من تسميته ببعض هذه الأسماء ظاهرة مشرقة في غير ما آية من كتاب الله ، إقرأ إذا شئت { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم } هو ذلك الكنز الذي انبعثت عنه أضواء دراريه وأبهى لآليه . ولقد فتح الله أبواب هذا الكنز فأشرقت الأرض بنورها ووضع الكتاب ليلة أَسرى به صلوات الله عليه وقربه منه سبحانه لمقام { أو أدنى } ثم أصبح يحدث أصحابه وغير أصحابه عن سر ما رأى فقال في تحقيق ما أشرنا إليه في صدر هذا المقال [ إنتسخت عين بصيرتي في بصري ليلة أَسرى بي فرأيت الله كما لم يكن شيء ] وما حدثنا به ص عن المثل الحقية لكل ما سعدت به ………….. .
مثلا هي الحق الصراح أتى بها  للعالمــــين مبشـــــــرا ونذيــــــرا
وشيء أخر يرجع بنا – والعود أحمد – إلى مشهد الفناء والجمع والإتحاد الذي أوردناه في صدر هذا المقال هو ما أشار إليه رسول الله ص في حديث قدسي رويناه عن سيدنا أبي العزائم قدس الله سره هو : قال رسول الله ص قال الله تعالى [ كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني ] .
فالحق سبحانه وتعالى ذاتا وإسما وصفة كنز ظل مخفيا حتى خصصت الإرادة الإلهية حضرة القدرة فأبرزت مقتضيات هذا الظهور الإلهي . وإذا علمنا قولة الأصوليين ( أول الإرادة آخر العمل ) تحققنا مكنون ما أجلاه لنا سيدنا أبي العزائم رضي الله عنه عن هذه الطاقة العالية التي فنيت إتحادا وحبا في ذات الله تعالى وانكشف لنا عن طريق الذوق السليم من قيود العقول .
أدير براحـــتيَّ الكون حتى  يكن ما شئته من غير صعب
تخر لي العـــــــوالم إن أضاءت  شموسي بينها في حال شربي
تشير جميعــها لي خاضعات  لتحظى بالسعادة عند ربي
ومن أسجد الله له ملائكته في أبي مبناه كيف لا ينفعل به الوجود وهو حقيقة هذه الرحمة الإلهية التي ذكرها الله سبحانه في قوله تعالى { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } .
صلوات الله وسلامه عليك أيها المصطفلى من خلقه لأسمى مرتبة في الوجود .
وإلى العدد القادم أيها القارئ الكريم حتى نرشف من هذا الرحيق المختوم بختام مسكي { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى